رفعها إلى فمه. فأَمَّا إخوتُهُ فأغرَقوا ني الضَّحك (1). وأمَّا امُّهُ

فأجهشتْ (2) بالبكاءِ. وامّا ابوه فقال في صوتٍ هادئٍ حزين:
ما هكذا تُؤخَذ ُاللقمةُ يا بُنَيَّ.. وأمَا هو فلم يَعْرِف كيف قَضَى ليلتهُ.

مِنْ ذاك الوقتِ تقيَّدَتْ حركاتُهُ بِشَيء من الرَّزانةِ
والإِشفاقِ والحياءِ لا حَدَّ له. ومن ذلك الوقتِ عَرَفَ لنفسِه
إرادةً قويَّةً. ومن ذلك الوقتِ حَرَّمَ على نَفْسِهِ أَلْوَانًا من
الطَّعَامِ لم تُبَحْ له إلا بعدَ أن جاوزَ الخامِسَةَ والعشرين. حَرَّم
على نفسِهِ الْحسَاءَ والأرْزَ كلَّ الألوان التي تُؤْكَلُ بالملاعق؛
لأنه كان يعرِفُ أنّه لا يُحْسِنُ اصطناعَ الْمِلْعَقة، ركان يَكْرَهُ
أن يَضحَكَ إِخْوتُهُ، أو تبكيَ امُّهُ، أو يُعَلِّمَهُ أبوه في هدوء
 حزين.

هذه الحادثةُ أعانَتْهُ على أن يَفْهَمَ حقًّا ما يتحدَّثُ به الرُّواة

عن أبي العَلاءِ من أنه أَكلَ ذاتَ يومٍ دبْسًا (3)، فسقطَ بعضُه
على صدرِه وهو لا يدري. فلما خرجَ إلى الدَّرْسِ قال له بعضُ
تلاميذِه: يا سيِّدي أكلتَ دِبسًا؟ فأسرع بيدِه إلى صدرِه

 (1) أغرقوا في الضحك: بالغوا فيه.

(2) أجهشت بالبكاء: همت به وتهياًت له.

(3) الدبس: عسل التمر وعسل النحل.

23

 الصفحة السابقة    الصفحة التالية