مفتي الديار الحمصية

مفتي الديار الحمصية السيد العلامة الداعية محمد طيب بن عبدالفتاح بن عارف بن محمد امين الأتاسي

مفتي حمص السابع عشر من آل الأتاسي

1327-1404من الهجرة =1909-1984م

 

مفتي حمص طيب الأتاسي يصلي إماما بمحافظ حمص ورئيس بلديتها

 

الشيخ العالم محمد طيب بن الشيخ عبدالفتاح بن الشيخ محمد عارف بن الشيخ محمد أمين الأتاسي، آخر من أفتى من السادة الأتاسية.  ولد في حمص عام 1327 من الهجرة الموافق عام 1909 الميلادي بباب هود[1]، ونشأ فيها فتربى على أيد الأفاضل، ونال من العلم الكثير والمفاضل، وقد درس على والده الذي كان إماماً في جامع الزاوية مبادئ العلوم، ثم أتم دراسته في المدارس العصرية الحكومية حتى الصف العاشر، وانتمى للمدرسة الإسلامية الوقفية التي كان يديرها الشيخ زاهد الأتاسي المتقدمة ترجمته، فقرأ عليه وعلى الشيخ محمد الياسين بسمار، والشيخ أنيس الكلاليب، والشيخ أحمد صافي، والشيخ سليم صافي، والشيخ محمد علي عيون السود، وغيرهم من كبار علماء حمص، ومن الكتب التي درسها على علماء المدرسة الإسلامية الوقفية الأربعون النووية، ومختصر ابن أبي جمرة، ومختصر البخاري للزبيدي في الحديث، والأزهرية والقطر والألفية في النحو، وفي الفقه كتاب نور الإيضاح ومتن القدوري، درسهما على الشيخ زاهد الأتاسي، وفي التفسير الجلالين والبيضاوي، وقد درس الكتاب الأخير على الشيخ أحمد الصافي، وفي الأدب كتاب "أدب الدنيا والدين" للماوردي وكتاب "الكامل" للمبرد، قرأ الكتاب الأخير على الشيخ زاهد الأتاسي، ودرس الخط على الشيخ سليم صافي.  وكان من مشايخه أيضا الشيخ الفقيه العلامة عبدالقادر الخوجة، والشيخ أبوالسعود عبدالسلام بسمار.

وتخرج الأتاسي عام 1936م من المدرسة الوقفية الإسلامية بعد سبع سنوات من الدراسة، وتعمم بعمامة العلماء، وحضر الدروس التي كان يفتحها والده الشيخ عبدالفتاح الأتاسي مع الشيخ سعيد بلبل في حلقة العلامة نجم الدين الأتاسي، فقرأوا كتاب "ملتقى الأبحر" للعلامة الحلبي في الفقه الحنفي، ثم صار يفتح الدروس العلمية مع رفيقه في مدارسة العلم الشيخ وصفي المسدي في حلقة الشيخ العلامة تقي الدين الأتاسي، وقرأ أيضاً على العلامة توفيق الأتاسي حاشية ابن عابدين، وسمع من العلامة أبي السعود الأتاسي، ولازم الأتاسي علامة مدينته ومفتيها ورأس علمائها الشيخ الجليل طاهر بن الشيخ خالد الأتاسي ودرس عليه وتهيأ لاستلام الفتوى.  هذا وقد عهد إلى الشيخ طيب الأتاسي بالخطابة في جامع المرحوم محمد سعيد أفندي مراد الأتاسي في 30 آذار (مارس) عام 1935م، ثم عين خطيبا لمسجد سيدي خالد بن الوليد، مسجد حمص الشهير، في 3 رمضان عام 1359 الهجري (1940م)، كما أعطي أحد دروس الفتوى في حمص.

ولما اجتمع علماء بلاد الشام عام 1357 من الهجرة الشريفة (1938م) في المؤتمر الأول للعلماء والذي ترأسه الشيخ طاهر الأتاسي رحمه الله ليدحضوا حجج المستعمرين ويطالبوا الحكومة بالذود عن العلم واللغة وإصلاح المحاكم والمدارس كان المترجم من ضمن الوافدين على المؤتمر المشاركين في نشاطاته ممثلاً حمص، ومن أعضاء ذلك المؤتمر من علماء الأسرة الأتاسية كان أيضاً الشيخ توفيق الأتاسي والشيخ عاطف الأتاسي، رحمهما الله، وانظر تفصيل البيان الذي أصدره المؤتمر وأسماء أعضائه في ترجمة الشيخ طاهر الأتاسي رئيس المؤتمر[2]. كما أن الأتاسي انتخب أيضا عضوا لمجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بحمص[3].  وفي عام 1385 من الهجرة (1966م) تولى الشيخ طيب الأتاسي الإفتاء بالديار الحمصية وكالة بعد وفاة مفتيها الشيخ بدر الدين الأتاسي الآتية ترجمته، ثم عين مفتيا متمرنا بتاريخ 25 شوال عام 1387 الهجري الموافق للرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) عام 1968م، ثم عين مفتيا لمحافظة حمص في 16 شوال عام 1388 الهجري (4 كانون الثاني 1969م) في عهد رئيس الدولة الدكتور نورالدين الأتاسي، وظل مفتياً بها حتى وافاه أجله عام 1404من الهجرة (1984م) أي قرابة 18 سنة. 

وفي حمص درس على الأتاسي جماعة من العلماء منهم الشيخ زهير بن عبدالرحمن ممتاز الأتاسي والذي لازمه وكان وكيلاً لفتواه ومبيضاً لفتاويه، وقد قرأ الشيخ زهير الأتاسي على المترجم كتاب شرح شرعة الإسلام، وكتاب الجوهرة على القدوري.  قال الشيخ زهير الأتاسي: "والله علمنا النظام وحسن السلوك بأفعاله قبل نصائحه وأقواله، فكم كنا نأتي دائرة الفتوى في الفجر فنجده رحمه الله قد سبقنا إليها وهو الشيخ الكبير".  ومن الذين أخذوا عنه أيضا القاضي محمد وحيد الدين بن سعيد العابد.  وقد تولى رحمه إدارة الثانوية الشرعية بحمص والتدريس فيها فاستفاد منه خلق كثير.  

كان الأتاسي من الدعاة إلى الله، شارك في رحلات إلى خارج البلاد للتعرف على المسلمين في أقاصي البلاد ونشر الوعي الإسلامي والدعوة.  في عام 1968م الموافق لعام 1388 للهجرة زار العلامة الأتاسي الإتحاد السوفييتي ليتعرف على مسلميه ويشارك في نشر الوعي الإسلامي ولمد يد العون لمسلمي تلك الأصقاع، وقد ضم الوفد المفتي العام للدولة السورية، الشيخ أحمد كفتارو، والشيخ محمد الحكيم مفتي حلب، والشيخ بشير مراد مفتي السلمية، والشيخ محمد رشيد الخطيب الحسني، والشيخ محمد فخر الدين بن إبراهيم ابن محدث الشام الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني.  وكان في استقبال هذا الوفد علماء روسيا ومفتيها.  وفي تلك الزيارة كان العلامة الأتاسي رحمه الله يدعو إلى الله بالفعل قبل القول، فقد حدثني الشيخ زهير الأتاسي أنه كان إذا حان وقت الصلاة في أثناء زيارة رسمية في أحد المعامل أو المجمعات أو أحد الأماكن العامة خلع الأتاسي عمامته وعباءته ففرشهما على الأرض ورفع صوته بالآذان ثم يشرع بالصلاة على مرأى ومشهد من العامة حتى يتحلق حوله الناس معجبين ويتجمعوا لمشاهدة هذا الشيخ العالم القادم من بلاد الشام لا يلقي بالا لأعناق تشرئب أو أبصار تحلق -في وقت كان المسلمون في جمهوريات الاتحاد السوفيتي مضطهدين في دينهم مقيدين في عباداتهم أي تقييد- فتخفق الأفئدة لهذا المنظر وتنشرح الصدور لهذه الجرأة.  وكان رحمه الله لا يفتر عن التنبيه على الحرام من طعام وشراب في المجالس ولا يفتأ يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر دون مهادنة أو مجاملة حتى أنه في أحد الاجتماعات أشار عليه أحد زملاءه من أفراد وفد العلماء السوري أنه لعله إن بالغ في التنبيه قد يتسبب بالاحراج للوفد فأبى رحمه الله إلا أن يصدع بالحق ويعلم الناس أمور دينهم مشيرا ألا مداهنة في أمور الدين.

كان العلامة الأتاسي حكيماً ورعاً زاهداً طيب المجلس والعشرة متحملا للأذى صابراً عليه.  حدثني تلميذه الشيخ زهير حفظه الله أن بعض المبروكين بسطاء العقل دخل عليه مكتب الافتاء بحمص ذات يوم فأثقل معه في المزاح والشيخ يتحمل ويصبر حتى بلغ في مزاحه مبلغا أزعج هذا المبروك معه الشيخ وأغضبه فطرده الشيخ من المكتب، فلما صار إلى الصباح أتى الشيخ المترجم مكتب الافتاء مبكرا فسأله الشيخ زهير عن سبب تبكيره فأجابه قائلا: "والله لم أعرف طعم النوم البارحة يا زهير، اذهب فابحث عن الرجل المبروك فأت به لنصالحه ونطيب من خاطره"، فخرج الشيخ زهير في طلب المبروك فإذا بالرجل يدور على الناس يطلب منهم التوسط لدى الشيخ طيب الأتاسي ليسامحه عما بدر منه، رحمه الله.

 وكان لا يخاف في الله لومة لائم، فكان يلجأ لمشورة أصدقائه وأقربائه قبل أن يقدم على إصدار الأحكام المهمة. وكانت له مواقف تنم عن شجاعة وجرأة فإذا وردت في الجرائد أقوال على لسانه لم يتلفظ بها واجه المسؤولين رأسا منددا مستنكرا أن يتجرأ هؤلاء على الكذب على لسان مفتي حمص مستغلين منصبه وموقعه في قلوب الناس في نشر أرائهم السياسية على الملأ حتى تجد القبول والاستحسان.  وكان يقول الحق دون رضوخ ويمشي في الأسواق في شهر رمضان في وضح النهار فإن رأى حراما يباع أو طعاما يؤكل ضرب الأرض بعصاه غاضبا منبها فيتوقف مرتكب الحرام عن فعله ويمتثل لأمر المفتي. 

كان رحمه الله خاتمة فقهاء مدينته، ولم يتول بعده من أسرته منصب الأباء والأجداد إلى اليوم، وإنما قام بأعمال الفتوى وكالة عن آل الأتاسي الشيخ العالم فتح الله القاضي إلى يومنا هذا[4].

وللأتاسي ترجمة في كتاب "معالم وأعلام من حمص الشام" للشيخاني وكاخيا اللذين قالا عنه رحمه الله: "وكان لطيف المعشر متواضعا، وقد ذكر موظفوا الأوقاف المعاصرون له والعلماء العارفون بفضله الشيء الكثير عن صدقه وطيبته وحسن تصرفه للأمور، وهو آخر من تولى الإفتاء من أسرة آل الأتاسي"[5].

وفي الثامن من جمادى الآخرة عام 1404 الهجري، المقابل للعاشر من آذار (مارس) عام 1984م حصد الأجل روح الشيخ الأتاسي فانتقلت إلى الرفيق الأعلى وشيع جثمانه إلى مقبرة آل الأتاسي حيث دفن رحمه الله بعد عمر حافل بالتدريس ووالنفع والدعوة إلى الله وخدمة الدين[6]

وقد جاء في الشجرة الوليدية أن والدة المترجم هي السيدة رسمية بنت مراد بن سعيد الأتاسي، وأما جدته لوالده فكانت السيدة نجلاء بنت حافظ بن سعيد الأتاسي، رحمهم الله، وقد تزوج من نهلة رسلان ومنها كان أولاده السادة محمد العابد، ومحمد منهال، عبدالحكيم، وعبدالجبار، وبناته سلام وندى وهالة.


 

[1] أخبرنا بتاريخ ولادة المترجم ابنه السيد عبدالحكيم الأتاسي وتلميذه الشيخ زهير الأتاسي.

[2] بيان مؤتمر العلماء الأول المنعقد بدمشق-اللجنة التنفيذية المركزية للمؤتمر-ص 19.

[3] وتخفق الرايات-فارس-ص55.

[4] أخذت الترجمة في أغلبها من الصادر الآتية: من معلومات زودنا بها جدي السيد زياد الأتاسي، والشيخ زهير الأتاسي تلميذ المترجم، والشيخ وصفي المسدي صديقه وزميله في طلب العلم، والسيدة ندى بنت الشيخ المترجم، ومن معالم وأعلام في حص الشام-الشيخاني وكاخيا-الصفحات 435، 437، 440، 590، ومن تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، الحافظ وأباظة-الجزء الثالث، ص 522.

[5] ص 437.

[6] أخذت الترجمة في أغلبها من الصادر الآتية: من معلومات زودنا بها جدي السيد زياد الأتاسي، والشيخ زهير الأتاسي تلميذ المترجم، والشيخ وصفي المسدي صديقه وزميله في طلب العلم، والسيدة ندى بنت الشيخ المترجم، ومن معالم وأعلام في حص الشام-الشيخاني وكاخيا-الصفحات 435، 437، 440، 590، ومن تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، الحافظ وأباظة-الجزء الثالث، ص 522.